هذه النميطة التعليمية هي مورد مرجعي للمحاضرين تنزيل النميطة
المسائل الرئيسية
يشير تعبير "النزاهة في القطاع العام"، أو النزاهة العمومية، إلى استخدام الصلاحيات والموارد الموكلة إلى القطاع العام استخداماً فعالاً وأميناً ولخدمة الأغراض العمومية. وثمة معايير أخلاقية إضافية ذات صلة يُتوقَّع من القطاع العام أن يلتزم بها، منها الشفافية والمساءلة والنجاعة والكفاءة. فعلى سبيل المثال، يتعين على موظفي الأمم المتحدة "أن يلتزموا بأعلى معايير الكفاءة والمقدرة والنزاهة"، ويعرِّف النظام الأساسي لموظفي الأمم المتحدة مفهوم النزاهة بأنه يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، "الاستقامة والحياد والعدل والأمانة والصدق في جميع الأمور التي تمس عملهم ووضعيتهم" (البند 1-2 (ب) من النظام الأساسي للأمم المتحدة). وقد عُرِّف مفهوم النزاهة العمومية أيضاً تعريفاً عامًّا بأنه يعني المثابرة على الانحياز للقيم الأخلاقية المشتركة والتقيد بها وبالمبادئ والمعايير الخاصة بالتمسك بالمصلحة العامة وتغليبها على المصالح الخاصة في القطاع العام (OECD, 2017, p. 7).
والنزاهة العمومية ضرورة أساسية للنهوض بالصالح العام ولضمان مشروعية المؤسسات العمومية. وهي تُعتبر أيضاً نقيضاً للفساد، حسبما تُسلِّم بها المادتان 7 و8 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. غير أنَّ تدعيم النزاهة في الخدمة المدنية يمثل تحدياً معقَّداً ينطوي على أكثر من مجرد إلزام الموظفين بالتقيُّد بالمعايير الأخلاقية الشخصية والمهنية. ففي غياب ثقافة أخلاقية ونظام ملائم لإدارة النزاهة على الصعيد المؤسسي، قد يواجه موظفو الخدمة المدنية عقبات تمنعهم من التصرُّف بنزاهة على الصعيد الفردي، رغم بذلهم قُصارى الجهود.
وتستكشف النميطة 1 (المقدِّمة والإطار المفاهيمي) و النميطة 14 (الأخلاق المهنية) من النمائط المتعلقة بالنزاهة والأخلاق، بصورة مفصلة، مسائل معايير النزاهة والأخلاق الشخصية والمهنية، التي تنطبق على المستوى الفردي. أما هذه النميطة فتركز، في المقابل، على النهوج التي يمكن من خلالها تدعيم النزاهة والأخلاق في القطاع العام على المستوى المؤسسي. وهذا المنظور المؤسسي ليس على انفصال تام عن المعايير الفردية المستوى، بل هو بمثابة نهج نُظُمي يجمع بين تدابير تعزيز الأخلاق على المستوى الفردي (مثل التدريب والقيادة عن طريق الاقتداء) والتدابير المؤسسية، مثل مراجعة الحسابات، وآليات الشكوى، والخطوط الساخنة، وهيئات التأديب وإجراءاته، والقواعد والإجراءات الرامية إلى الحد من السلوك غير الأخلاقي، والحوافز التي تشجع الأفراد على رفع صوتهم ضد السلوك غير الأخلاقي (مثل الحوافز التي تناقش في النميطة 7 (استراتيجيات تعزيز التدابير الأخلاقية) من النمائط المتعلقة بالنزاهة والأخلاق).
وعلى أساس هذه الخلفية، تناقش هذه النميطة مسألة النزاهة العمومية من منظور مؤسسي. وهي تتناول في هذا السياق مفهوم "إدارة النزاهة"، وكذلك استخدام المدونات الأخلاقية وتدابير أخرى لتعزيز الأخلاق داخل المؤسسات العمومية. ورسالتها الرئيسية هي أنه بغية ضمان النزاهة والأخلاق في المؤسسات العمومية يلزم اتباع نهج نُظُمي يجمع بين العناصر القائمة على الامتثال (أي القائمة على القواعد) والعناصر القائمة على ترسيخ القيم (Huberts, 2014, p. 179) ومن أجل وضع المناقشة ضمن سياق الخدمة العمومية الأوسع، تبدأ النميطة بتقديم لمحة عامة عن أهداف الخدمة العمومية وقيمها والتزاماتها. ثم تناقش مسألة إدارة النزاهة العمومية وبعض الأدوات الرئيسية لتعزيز تلك النزاهة.
أهداف الخدمة العمومية وقيمها والتزاماتها
تتألف الخدمة العمومية في أيِّ بلد من المؤسسات العمومية والأفراد العاملين فيها. فالمؤسسات العمومية تُنشئها الدولة خصيصاً لتلبية أغراض عمومية، وتظل خاضعة للمساءلة المباشرة أمام الدولة. وهذه المؤسسات تشمل الوزارات والمستشفيات العمومية والمدارس العمومية والجهاز العسكري وجهاز الشرطة وما إلى ذلك. والغرض من المؤسسات العمومية هو خدمة مصالح الناس، أي مصلحة المجتمع كله. وهذه المؤسسات تختلف عن مؤسسات القطاع الخاص، التي لا تخدم في كثير من الأحيان سوى المصالح الخاصة لمالكيها أو حائزي أسهمها.
وثمة اختلاف رئيسي آخر بين المؤسسات العمومية والمؤسسات الخاصة، هو أنَّ الأولى تُموَّل أساساً مما يدفعه المواطنون من مساهمات إلزامية، وخصوصا الضرائب والرسوم. وهذا يعني أنَّ الأفراد ليس أمامهم خيار سوى تمويل الخدمات، في مقابل الخيار الحر الذي تستند إليه قرارات المستهلكين في القطاع الخاص. ومن ثم، فإنَّ مشروعية الخدمة العمومية تتوقف على ثقة المواطنين فيها. ولكي تكسب هذه الثقة، يلزم أن تكون الخدمة العمومية عادلة ومنصفة وشفافة ومستجيبة لاحتياجات المواطنين وممتثلة للقوانين واللوائح التنظيمية ومعايير الجودة ذات الصلة. وإلى جانب ذلك، يجب تحقيق النتائج من خلال إجراءات محايدة وممتثلة للقانون وخاضعة للمساءلة. وهذه هي قيم الخدمة العمومية الرئيسية التي يرتكز عليها التشغيل الفعال لنظام الحوكمة. فعندما ينظر المواطنون إلى تقديم الخدمة العمومية باعتباره عملية مشروعة، يرجح أن يمتثلوا للقواعد والمعايير ذات الصلة. وهذا، بدوره، سيفضي إلى نظام حوكمة أكثر نجاعة، ويمكنه التركيز على تقديم الخدمات وتلبية مصالح الناس، لا على فرض الامتثال قَسراً.
وفي بعض الأحيان، يُنظَر إلى المنشآت المملوكة للدولة على أنها جسر يربط بين القطاعين، لأنها مملوكة للدولة وعادة ما تدعم تحقيق هدف اجتماعي-اقتصادي رئيسي (مثل توفير الكهرباء أو الاتصالات). ولكن تعمل على أساس مبادئ العمل التجاري. غير أنه يتعين عليها، نظراً لأنها مملوكة للدولة ومموَّلة منها، أن تمتثل للمعايير الأخلاقية للمؤسسات العمومية. وبطبيعة الحال، يمكن أن تكون هناك مؤسسات خاصة تقدم خدمات ذات سمات اجتماعية، مثل المستشفيات الخاصة. ولكنها ليست مملوكة للدولة أو ممولة منها، ومن ثم فلا تُعتبر مؤسسات عمومية. ويُلاحَظ أنه بصرف النظر عن الاختلافات بين القطاعين الخاص والعام، يجب على جميع المؤسسات أن تمتثل للقوانين واللوائح التنظيمية الخاصة بمجال عملها، مثل القوانين واللوائح المتعلقة بمعايير الصحة والأمان، وقواعد حماية البيانات، واللوائح التنظيمية الخاصة بالبيئة. وإلى جانب ذلك، يجب على المستخدمين المهنيين، سواء في المؤسسات العمومية أو الخاصة، أن يلتزموا بالمعايير الأخلاقية المهنية.
وكثيراً ما يُطلق على مستخدمي المؤسسات العمومية اسم "الموظف العمومي". وهذا التعبير الأخير معرَّف تعريفاً واسعاً في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بأنه:
'1' أيُّ شخص يشغــل منصبـاً تشريعيًّا أو تنفيذيًّا أو إداريًّا أو قضائيًّا لدى دولة طرف، سواء أكان معيَّناً أم منتخباً، دائماً أم مؤقَّتاً، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر، بصــرف النظر عن أقدمية ذلك الشخص؛ '2' أيُّ شخص آخر يؤدي وظيفة عمومية، بما في ذلك لصالح جهاز عمومي أو منشأة عمومية، أو يقدم خدمة عمومية، حسب التعريف الوارد في القانون الداخلي للدولة الطرف وحسـب ما هو مطبّق في المجال القانوني ذي الصلة لدى تلك الدولة الطرف؛ '3' أيُّ شخص آخر معرَّف بأنه "موظف عمومي" في القانون الداخلي للدولة الطرف. ولأغراض هذه النميطة، يُفهم تعبير "الموظف العمومي" وفقاً للتعريف الواسع الوارد في اتفاقية مكافحة الفساد.
ويُتوقَّع من الموظفين العموميين أن يتخذوا قرارات ذات درجة عالية من الحِرَفيَّة والالتزام بالصالح العام، وعلى نحو شفاف وخاضع للمساءلة.
وتقع على عاتق الموظفين العموميين ثلاثة التزامات أساسية أشد أهمية من سواها ويرتكزون عليها في اتخاذ قراراتهم العمومية، هي: اتِّباع أحكام القانون، واستخدام الموارد العمومية على نحو فعال، والتصرف على نحو أخلاقي. وتشدد المادة 8 من اتفاقية مكافحة الفساد على أهمية التعرُّف على نحو أخلاقي، إذ تُلزِم الدول بالعمل على تعزيز "النزاهة والأمانة والمسؤولية بين موظفيها العموميين" من أجل منع الفساد. وإضافة إلى ذلك، يُتوقَّع من الموظفين العموميين أن يتفكروا في جميع القيم والمبادئ الواردة في مدونة القواعد الأخلاقية أو مدونة قواعد السلوك التي توجه عمل مؤسستهم (انظر Lewis and Gilman, 2012, pp. 28-30). فمن شأن التقصير على هذه الجبهات أن يحمل معه مخاطر زعزعة ثقة الناس، ومن ثم إلحاق الضرر بنوعية النظام وفعاليته. وقد وصف لويس وغيلمان الموظف العمومي بأنه "الوكيل المؤقت" الذي أوكلت إليه صلاحية وسلطة اتخاذ القرارات نيابة عن المجتمع. وهما يشيران إلى خمس قيم أخلاقية أساسية في الخدمة العمومية، هي المساءلة، وعدم التحيُّز، والعدل والإنصاف، وتجنُّب الإيذاء، وفعل الخير. وهما يُقسِّمان هذه القيم الأساسية إلى مبادئ عملية على النحو الموضَّح في الجدول التالي:
|
|
الجدول 1: القيم الأساسية والمبادئ العملية للخدمة العمومية
إدارة النزاهة العمومية
إنَّ المؤسسات العمومية، مثلما ذُكر آنفاً، تعمل لما فيه خير المجتمع. وهي مُلزَمة بأن تستخدم ما في عهدتها من موارد على نحو فعال وناجع وفقاً للمعايير القانونية والقيم الأخلاقية المشتركة. وقد كان النهج التقليدي لتعزيز الأخلاق في المؤسسات العمومية يقوم على قواعد واجبة الإنفاذ وعلى الانضباط. غير أنَّ العالم شهد في العقود الأخيرة درجة متزايدة من التعقُّد وسرعة التغيُّر استدعت اتباع إجراءات تكيُّفية أكثر مرونة في تقديم الخدمة العمومية. وفي هذا السياق. فُوِّض الموظفون باتخاذ القرارات وأُوكلت إليهم صلاحيات تقديرية أوسع نطاقاً. ومع أنَّ هذه التفويضات والصلاحيات يمكن أن تعطي نتائج أفضل وتجعل الموظفين العموميين أكثر حماسة، فهي تحمل معها أيضاً مخاطر إساءة استخدامها من جانب الموظفين اللاأخلاقيين، الذين يمكن أن يستغلوا سلطتهم في تحقيق مكاسب شخصية بدلاً من النهوض بالمصلحة العامة. ومن أجل معالجة المخاطر الأخلاقية التي تنطوي عليها القرارات التقديرية وتدعيم النزاهة المؤسسية، تضع المؤسسات العمومية ضوابط داخلية، وكذلك أطراً لتقييم الأداء والمساءلة عنه. وفي موازاة ذلك، تعتمد المؤسسات العمومية إجراءات تهدف إلى تدعيم حماسة المستخدَمين وتعزيز عملية اتخاذ القرار المستندة إلى القواعد والمبادئ. وإلى جانب هذه، ثمة قواعد قانونية ولوائح تنظيمية خارجية تتطلب التقيُّد بمعايير معيَّنة. وأخيراً، هناك مجموعة منوعة من الهيئات الداخلية والخارجية التي تتولى تعزيز النزاهة والامتثال من خلال وسائل التحقيق ومراجعة الحسابات والتدريب وغيرها من الوظائف. ويشار عموماً إلى منظومة القوانين واللوائح التنظيمية والسياسات والممارسات والموظفين والهيئات والوحدات التي تعزز أخلاقية اتخاذ القرارات وتمنع الفساد وتنهض بالصالح العام بمنظومة إدارة النزاهة (OECD, 2017, p. 9). وقد لا تسمى هذه المنظومات دائما ب"منظومات إدارة النزاهة"، ولكن هذا المفهوم مفيد لأغراض هذه النميطة إذ يُسلِّم بأنَّ تعزيز النزاهة والأخلاق في القطاع العام يتطلب اتباع نهج نُظُمي.
ونقطة الانطلاق لصوغ منظومة لإدارة النزاهة العمومية هي الرسالة: خدمة المجتمع. وتقوم المؤسسات بتحديد الأهداف والقيم المستمدة من هذه الرسالة وبترجمة تلك الأهداف والقيم إلى قواعد تشغيلية تساعد على تحقيق النتائج المنشودة. وضماناً لتنفيذ الأنشطة اليومية وفقاً للقواعد التشغيلية، تُنشئ المؤسسات نظماً للرقابة الداخلية (في مجالي الإدارة المالية والاشتراء، مثلاً). ولكي تكون القواعد التشغيلية ونظم الرقابة الداخلية المقابلة ذات مغزى ومفعول عملي، يلزم أن تكون قيم المؤسسة وأهدافها متوافقة مع المعايير المهنية للمهن المُسهِمة. وهذا يمكن أن يشكل تحدياً في حالة المؤسسات العمومية التي لديها ولايات واسعة ومتنوعة ومِهن مسهمة كثيرة تسترشد بنماذج شديدة الاختلاف، كما في حالة البلديات المحلية.
ولنأخُذْ، على سبيل المثال، قواعد وضع الميزانية لإحدى البلديات المحلية. فالقيم المعلنة لهذه المؤسسة (أي البلدية المحلية) تشمل التجاوب مع توقعات المواطنين والمساءلة ومراعاة التماسك الاجتماعي والاستدامة. والأهداف المعلنة هي دعم المستضعفين وضمان توافر البنى التحتية في كل أنحاء البلدية والحفاظ على الأنشطة الاقتصادية وفرص العمل ضمن نطاق ولايتها والعمل على استخدام الموارد استخداماً فعالاً وناجعاً والحفاظ على إدارة مالية مستدامة. وفي عملية تخصيص موارد الميزانية، سوف يتوقع المتخصصون في الإدارة المالية سقوفاً مناسبة للإنفاق وحسابات للتكلفة مقابل المنفعة. كما أنَّ المهندسين الذين ينفذون مشاريع البنى التحتية يمكنهم بسهولة، في معظم الحالات، أن يقدموا حسابات كمية وأن يعدلوها تبعاً لسقوف الإنفاق. أما المتخصصون في الخدمة الاجتماعية فسوف يحتاجون في بعض الحالات إلى قدر من الصلاحية التقديرية من أجل توفير دعم فعال للمستضعفين، لأنَّ هذا الدعم ينبغي أن يكون مصمماً خصيصاً لتلبية الاحتياجات في كل حالة منفردة. ومن ثم، فإنَّ معايير اتخاذ القرارات المتعلقة بمشاريع البنية التحتية يمكن أن تكون بسيطة جدا، حتى أنه يمكن إدراجها في استراتيجية البنى التحتية. أمَّا بالنسبة لمخططات المساعدة الاجتماعية فيلزم وجود إجراءات مغايرة لاتخاذ القرارات، تُعطى فيها الصلاحية التقديرية للإدارة المعنية بالخدمة الاجتماعية، ولإنشاء نظام للرقابة الداخلية يضمن أن تكون القرارات غير متحيِّزة وغير فاسدة (مثلاً بإشراك لجنة اجتماعية أو جهة أعلى لاتخاذ القرارات، وكذلك الإدارة القانونية). ومن ثم، فهناك مجالات مختلفة تتطلب عمليات مختلفة تفضي إلى قرارات خاصة بالميزانية، كما يلزم وجود أنواع مختلفة من القواعد التشغيلية والضوابط الداخلية.
كما أنَّ القواعد واللوائح التنظيمية لا تكفي وحدها لضمان النزاهة. ويجب على المؤسسات أن تتكفل بألاَّ تكون نظمها الخاصة بإدارة النزاهة موجودة على الورق فحسب، بل أن تُترجَم أيضاً إلى ممارسات يومية. ويتعلق جزء من هذا الأمر بكفاءات الموظفين ومهاراتهم وانضباطهم. وثمة جزء آخر ذو طابع تطلُّعي؛ إذ ينبغي أن يكون الموظفون ملتزمين بتطبيق القواعد. ولكي يحدث هذا، يلزم أن تكون قيم الموظفين الشخصية والمهنية متوافقة مع أهداف المؤسسة وممارساتها. وبهذا المعنى، يهدف نظام إدارة النزاهة إلى المواءمة بين هذه المكوِّنات من خلال التدريب ومدونات قواعد السلوك ومدونات القواعد الأخلاقية، مثلاً. واتِّباع نهج نُظُمي من هذا القبيل في إدارة النزاهة هو أمر مفيد لأنه يستهدف المؤسسة برمتها ويهدف إلى ضمان أن تكون القواعد والقيم المؤسسية متعاضدة وتحظى بقبول جميع الجهات المعنية.
ومع أنَّ التزام الموظفين وكفاءتهم هما أمران أساسيان لضمان النزاهة العمومية، فإنَّ المساءلة وتدابير الإنفاذ مُهمتان أيضاً. وفي هذا الساق، يجب على المؤسسات أن تعتمد إجراءات للإبلاغ عن حالات الإخلال بالنزاهة، وأن تعتمد كذلك تدابير لحماية الأشخاص المُبلغين. كما ينبغي للمؤسسات أن تنشئ نظماً تأديبية وآليات رقابية مثل المراجعة الداخلية للحسابات وإجراء تحقيقات داخلية. ومثلما ترد مناقشته بمزيد من التعمق في النميطة 7 (استراتيجيات تعزيز التصرفات الأخلاقية) من النمائط الخاصة بالنزاهة والأخلاق، يتطلب تعزيز ثقافة النزاهة تشجيع الموظفين والمؤسسات على التعلُّم من أخطائهم بدلاً من الاعتماد على اللوم والعقاب. غير أنَّ ضمان الامتثال يتطلب، في بعض الحالات، اتخاذ تدابير ضد الموظفين الذين ينتهكون القواعد. ويلزم أن تكون هناك موازنة دقيقة بين المساءلة وعمليات التعلُّم "الأكثر ليونة".
ولكنَّ القواعد يمكن أن تُخرق حتى مع وجود أفضل الآليات الإنفاذية. ومن ثم، ينبغي عدم الاكتفاء بتوفير حوافز مالية فحسب بل واستخدام الحوافز المعنوية أيضاً لإرساء بيئة أخلاقية. وهذا يتسق مع الفهم المتمثل في أنَّ عملية اتخاذ القرارات ليست أمراً عقلانيًّا فحسب ولكنها تتأثر أيضاً بالظروف المحيطة وبالعواطف، مثلما هو مُوضَّح بمزيد من التفصيل في النميطة 6 (التحديات التي تواجه نمط الحياة الأخلاقي) و النميطة 8 (الأخلاقيات السلوكية) من النمائط الخاصة بالنزاهة والأخلاق. ومن ثم، فرغم أهمية الحوافز المادية والجزاءات، يتأثر السلوك البشري أيضاً بالمكافآت الأكثر اتساماً بالطابع المعنوي، مثل شعور الموظف الأمين بالانتماء إلى المجتمع، أو بأن يُنظَر إليه كموظف ذي قيمة. وتُبيِّن البحوث أنَّ البشر كثيرا ما يقدمون المكافآت المعنوية على احتياجاتهم البيولوجية (Eagleman, 2016, p. 114). ويمكن لاستراتيجيات تدعيم التصرفات الأخلاقية في المؤسسات العمومية أن تسترشد بهذه الرؤية المتبصِّرة.
ويتمثل جوهر هذه المكافآت المعنوية في الاعتراف علناً بقيمة العمل الأخلاقي والناجع والفعال الذي قام به الموظف العمومي، بعد إتيانه الأداء اللائق في كثير من الأحيان، بل وعقب إتيانه ذلك الأداء مباشرة في بعض الأحيان. ورغم قلة البحوث المتعلقة بماهية المكافآت التي يقدِّرها الموظفون العموميون أكثر من سواها، فيمكن أن يُفترَض عقلاً أن يكون الإحساس بالإنجاز والاعتراف والامتلاك أكثر أهمية لدى الموظف العمومي من المكافأة المالية المرتبطة بالأداء. وقد أكدت هذا دراسة أجرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي تشجع استخدام المكافأة المالية المرتبطة بالأداء ولكنها تشير في الوقت نفسه إلى ضرورة عدم المبالغة في تقدير آثارها (OECD, 2007, p 5). وإلى جانب الاعتراف، يمكن أن يتلقى الموظف العمومي أيضاً مكافأة تطويرية، مثل التدريب والتكليف بمهام مثيرة للاهتمام أو منطوية على تحديات، وإسناد بعض الصلاحيات والمسؤوليات. وهذا يحفز الموظف العمومي على تحسين الأداء ويمكن أن يشجع السلوك الأخلاقي.
ويمكن للمؤسسات أيضاً أن ترسِّخ الوعي الأخلاقي بتشجيع المحادثات الجارية حول النزاهة والأخلاق ونوعية العمل. فهذه المحادثات يمكن أن تساعد على بناء حوافز لدى الموظفين العموميين وأن تحول دون الابتعاد عن القيم الأخلاقية. كما يمكنها أن ترسي قيماً مشتركة وبيئة آمنة وأن تبني الثقة داخل المؤسسات. وأخيراً، يمكن للمؤسسات أن تنشئ مكتباً لشؤون الأخلاق يمكن أن يسدي المشورة بشأن المسائل الأخلاقية.
وعلى هذه الخلفية، يمكن تصوُّر إدارة النزاهة العمومية على أنها عملية تستخدم الحوافز العقلانية والمادية والعاطفية لضمان السلوك الأخلاقي لدى الأفراد والمؤسسات. وتجمع هذه العملية بين الحوافز (الخارجية) القائمة على القواعد والحوافز (الداخلية) القائمة على القيم، والتي تدعم حفز الموظفين على خدمة أغراض المؤسسة. وكلاهما ضروريان لنزاهة الخدمة العمومية. وتتناول الفقرات التالية نهوجا وأدوات محتملة يمكن أن تبني ثقافة قائمة على النزاهة وأن تشجع السلوك الأخلاقي والمنسجم مع القواعد لدى الموظفين العموميين والمؤسسات.
مدونات القواعد الأخلاقية وغيرها من أدوات تعزيز النزاهة
تمثل مدونة القواعد الأخلاقية أو مدونة قواعد السلوك أداة رئيسية لتدعيم النزاهة في أيِّ مؤسسة عمومية. وتصاغ هذه المدونات لتجسيد مجموعة القيم والمعتقدات والممارسات السائدة في مجالات الخدمة العمومية والمهن المرتبطة بها، ولتوجيه سلوك الجهات الفاعلة. وتقوم المؤسسات الدولية والحكومات الوطنية على السواء بصوغ مدونات قواعد أخلاقية للخدمة العمومية. فعلى سبيل المثال، تحث اتفاقية مكافحة الفساد الدول على تطبيق "مدونات أو معايير لقواعد السلوك اللازمة لأداء الوظائف العمومية على نحو صحيح ومشرِّف وسليم". ونظراً لأنَّ معنى الأداء المشرِّف والسليم يمكن أن يكون في بعض الأحيان متوقفاً على السياق، فإنَّ صياغة مدونات الخدمة العمومية تختلف من دولة إلى أخرى. وإلى جانب ذلك، قد يمثل اختلاف المدونات المعتمدة لمختلف مجالات الخدمة العمومية أو أنواع العلاقات بين الجهات المعنية (مثل مدونة الحوكمة الرشيدة أو مدونة قواعد سلوك الموظفين المدنيين) تجسيداً لقيم سياقية معينة.
ومدونات قواعد السلوك الخاصة بالخدمة العمومية، شأنها شأن المدونات المهنية التي تناقش في النميطة 14 (الأخلاق المهنية) من سلسلة النمائط الخاصة بالنزاهة والأخلاق، تكون موجزة في بعض الحالات وأكثر توسعاً في حالات أخرى، إذ تحتوي على قائمة طويلة من القيم والمبادئ. ويتوقع من الموظفين العموميين أن يتمثلوا المدوَّنة داخل أنفسهم بحيث تصبح بوصلة أخلاقية داخلية لقراراتهم. وثمة أمثلة للكيفية التي جرى بها إدراج قيم مثل المساءلة والشفافية والتجاوب في مدونات القطاع العام، يمكن العثور عليها في مجموعات المدونات الأخلاقية المنشورة في الموقع الشبكي لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي وفي المكتبة القانونية الخاصة بمكافحة الفساد والتابعة لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدِّرات والجريمة (حيث تصنَّف المدونات كقوانين منفِّذة للفقرة 3 من المادة 8 من اتفاقية مكافحة الفساد). وعلى سبيل النموذج، أعدت الأمم المتحدة المدوَّنة الدولية لقواعد سلوك الموظفين العموميين، الواردة في مرفق قرار الجمعية العامة 51/59، المؤرخ 12كانون الأول/ديسمبر 1996. وتشير اتفاقية مكافحة الفساد إلى هذه المدوَّنة النموذجية كمصدر لإرشاد الدول التي تسعى إلى إعداد مدونات أخلاقية لقطاعها العام.
وكما أُوضح في النميطة 14، يمكن تمييز مدونة القواعد الأخلاقية عن مدونة قواعد السلوك على أساس أنَّ الأولى تتضمن عادة الأهداف والتطلُّعات التي يطمح المتخصصون إلى بلوغها (وتسمى أحيانا بالمدوَّنة التطلُّعية)، أما الثانية فتبيِّن الجزاءات المفروضة على عدم الامتثال لمقتضيات المدوَّنة (وتسمى أحياناً بالمدوَّنة القائمة على الامتثال أو بالمدوَّنة التأديبية). ويمكن أن تكون التطلعات معايير يراد تلبيتها أو أموراً يراد تجنبها. ويمكن تبيانها بدرجات مختلفة من الدقة. وهي ليست بالضرورة موجَّهة إلى السلوك الفعلي، إذ يمكن أن توصي بأن يسعى الموظفون إلى اكتساب مواقف وطباعاً معيَّنة وإلى مراعاة نقاط معينة أثناء عملية اتخاذ القرارات.
وتوضع مدوَّنات القواعد الأخلاقية للخدمة العمومية من أجل ترسيخ قيم الموظفين العموميين ودوافعهم المتأصلة. ونظراً لطابعها التطلعي، فإنَّ أهمية هذه المدوَّنات لا تقتصر على نصها فحسب، بل تتعداه إلى عملية صوغ المدوَّنة وتَمثُّلها داخليًّا. فعندما يُشرَك الموظفون في عملية صوغ المدوَّنة (أو أيِّ قواعد مشابهة أخرى)، يصبحون أكثر وعياً بأهمية المدوَّنة وأشد التزاماً من الناحية العاطفية باتباعها. ويمثل التواصل وبناء توافق الآراء والتعاون والمناقشات التطبيقية والتحريض وأداء القَسَم من جانب الموظفين الجدد أدوات إضافية يمكن أن تساعد على تشكيل وتدعيم منظومة قيم الخدمة العمومية وممارساتها. كما أنَّ لتوافر أجواء أخلاقية إيجابية في إدارة المؤسسة، وكذلك وجود طقوس مؤسسية ومحادثات مستمرة حول الأخلاق في مكان العمل، أهمية كبيرة في إذكاء وعي الموظفين العموميين بالاعتبارات الأخلاقية وفي تعزيز إمكانية الاعتراف بالمسائل والمآزق الأخلاقية على حقيقتها وعدم تجاهُلها من خلال التنصُّل الأخلاقي أو الردود التلقائية والتكنوقراطية. فمن شأن المناخ الأخلاقي الناتج عن ذلك أن يولِّد ضغطاً إيجابيًّا لدى النظراء والمجتمع يزيد من المكاسب الاجتماعية المتأتية من التصرف بصورة أخلاقية.
وإلى جانب المدوَّنات الأخلاقية التطلُّعية القائمة على القيم، تستخدم المؤسسات العمومية أيضاً مدوَّنات سلوكية تأديبية قائمة على الامتثال. وتحتوي هذه المدوَّنات على قواعد يجب على الموظفين العموميين أن يمتثلوا لها، كما تتضمن الجزاءات الرسمية المفروضة على مخالفة تلك القواعد. ويُقصَد من المدوَّنات التأديبية أن تكون أدوات للتحفيز الخارجي. والفارق الرئيسي بين الأداة القائمة على القواعد، مثل المدوَّنة السلوكية، والمدوَّنة الأخلاقية المستندة إلى القيم هو أنَّ الأولى تتضمن أحكاماً واجبة الإنفاذ. وقد شدد على الحاجة إلى مدوَّنات من هذا القبيل في المادة 8 من اتفاقية مكافحة الفساد، التي تحث الدول على اتخاذ "تدابير تأديبية أو تدابير أخرى ضد الموظفين العموميين الذين يخالفون المدوَّنات أو المعايير الموضوعة وفقا لهذه المادة". غير أنه ينبغي أن يكون واضحاً أنَّ الفارق بين المدوَّنات التطلُّعية (الأخلاقية) والمدوَّنات التأديبية (السلوكية) لن يكون قطعي الوضوح. فقد تكون المدوَّنات، مثلاً، تطلعية جزئيًّا وتنص أيضاً على جزاءات في حال ارتكاب مخالفة سلوكية خطيرة. ففي هذه المدوَّنات، لا تترتب الجزاءات إلاَّ على المخالفات الخطيرة.
وتعتمد معظم المؤسسات العمومية، سواء في إطار مدوَّنة سلوكية أو نوع آخر من اللوائح التنظيمية، قواعد تتعلق بتضارب المصالح وبالقيود المفروضة بعد انتهاء الخدمة. وتمثل مسألة تضارب المصالح مشكلة جوهرية في سياق السلوك الأخلاقي في القطاع العام. وينشأ تضارب المصالح عندما يكون الموظف العمومي في موقع يتيح له الانتفاع شخصيًّا من الأفعال أو القرارات التي يتخذها بصفته الرسمية. فعلى سبيل المثال، إذا كان على الموظف العمومي أن يتخذ قراراً بشأن توظيف زوج له، أو إذا كانت لدى القاضي علاقة مالية مع أحد الأطراف في قضية ما، كان الاثنان يواجهان مشكلة تضارب في المصالح. وفي هذه الحالات، يجب على الموظف العمومي أن يفصح عن وجود تضارب في المصالح وأن يرفض اتخاذ قرار بشأن هذه المسألة. ويمكن العثور على أمثلة كثيرة لتضارب المصالح في هذه المقالة القصيرة. ويُقصد من القيود المفروضة بعد انتهاء الخدمة منع نشوء تضارب في المصالح. فعلى سبيل المثال، يُحظر على الموظفين العموميين السابقين أن يعملوا في غضون فترة زمنية معيَّنة من تركهم الخدمة في القطاع العام، لدى شركة كانت تتعاقد مع المؤسسة العمومية المعنية. وفي حال انتهاء هذا الحظر، ينشأ احتمال استخدام ذلك الموظف العمومي تأثيره لاتخاذ قرار اشتراء عمومي يحابي الشركة التي يعتزم العمل لديها مستقبلاً، وتكون الشركة ميالةً إلى رشو ذلك الموظف بأن تعرض عليه وظيفة جذابة مقابل إرساء العقد الحكومي عليها. ويمكن العثور على مزيد من الإيضاحات حول مدونات الخدمة العمومية في وثائق منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (لعام 2009). وتجدر الإشارة إلى أنَّ الموظفين العموميين يسترشدون أيضاً، إلى جانب المدوَّنات السلوكية، بالقوانين واللوائح التنظيمية بعملهم، بما في ذلك الجوانب المالية والصحية والجوانب الخاصة بالأمان.
ومثلما ذكر آنفاً، تمثل إيجابية الأجواء الأخلاقية السائدة في إدارة المؤسسة أحد أهم متطلبات النزاهة العمومية في أيِّ مؤسسة. فمن غير المرجَّح بتاتاً أن يتصرف الموظفون العموميون العاملون في أيِّ وزارة أو مستشفى أو أيِّ مؤسسة عمومية أخرى على نحو أخلاقي إذا كانت القيادة لا تقدم قُدوةً أخلاقية. وهذا يطرح مسألة ما إذا كان ينبغي للمدوَّنات الأخلاقية أن تسري أيضاً على السياسيين (الذين يترأسون بعض المؤسسات العمومية لفترة زمنية محدودة أثناء مدة خدمتهم)، وليس فقط على الموظفين العموميين (الذين يعملون في المؤسسة بصورة دائمة). فكثيراً ما يُطلب من السياسيين تقديم إعلانات عن الموجودات والمصالح (إقرارات ذمة مالية)، أما المدوَّنات الأخلاقية فليست موجودة دائماً. ويمكن العثور هنا على دليل للمدوَّنات الأخلاقية الخاصة بأعضاء البرلمانات.
وثمة مسألة هامة أخرى، تتعلق بالإنفاذ والمساءلة عن انتهاكات النزاهة. ففي نهاية المطاف، تنشأ المشاكل أساسا عندما لا تكون القيم الأخلاقية واقعاً مَعيشاً. ورغم أهمية الدوافع المتأصلة لاتباع سلوك أخلاقي، فإنَّ الطريقة التي تعامل بها المؤسسة البلاغات المتعلقة بانتهاكات النزاهة هي أيضاً بالغة الأهمية لردع تلك الانتهاكات ومعالجتها. وفي هذا السياق، تكتسب هياكل الإبلاغ وتدابير حماية المبلغين أهميتها، شأنها شأن نظم التأديب وآليات الرقابة، مثل المراجعة الداخلية للحسابات وإجراء تحقيقات داخلية. ومثلما ترد مناقشته بمزيد من التعمق في النميطة 7 (استراتيجيات تدعيم التدابير الأخلاقية) من سلسلة النمائط الخاصة بالنزاهة والأخلاق، يتطلب ترسيخ ثقافة النزاهة تشجيع الموظفين والمؤسسات على التعلم من أخطائهم، بدلاً من اللوم والعقاب. غير أنَّ ضمان الامتثال يتطلب، في حالات معينة، اتخاذ تدابير بحق الموظفين الذين ينتهكون القواعد. ومن ثم، فإنَّ هناك توازناً دقيقاً بين المساءلة وإجراءات التعلُّم "الأكثر ليونة".
وتناقش النميطة 7 أيضاً أهمية توافر بيئة آمنة لتدعيم النزاهة في أيِّ مؤسسة. ويتمثل هذا جزئيًّا في مساعدة الموظفين على معالجة المآزق والشواغل. ومثلما ذكر آنفاً، يجب أن تكون القرارات العمومية مجسِّدةً لجميع القيم العمومية. ومن حيث المبدأ، يتمثل دور إدارة النزاهة في استحداث إجراءات لاتخاذ القرارات تجمع بين الأفكار المتعلقة بمختلف القيم وآليات الرقابة اللازمة لكبح التحيُّز (Graaf-Huberts, 2014). وفي الوقت نفسه، هناك مآزق يتعين فيها على الموظفين العموميين اتخاذ قرارات صعبة. ومن الأدوار المهمة لنظم إدارة النزاهة توفير الدعم لعمليات اتخاذ القرارات هذه (بما يشمل، على سبيل المثال، توفير الدعم للمبلغين المحتملين قبل أن يقرروا الإبلاغ رسميًّا). ويمثل توافر مناخ مؤسسي آمن ووجود تحسُّس أخلاقي لدى القادة والمديرين عنصرين أساسيين في مناقشة المآزق وطرح الشواغل. وتقوم بعض المؤسسات باستخدام مستشارين أخلاقيين أو بتيسير سبل الاستعانة بمستشار قانوني خارجي يمكنه أن يدعم اتخاذ قرارات منفردة أو عملية منظمة لمناقشة المآزق. ويتمثل دور هؤلاء المستشارين في توفير مشورة محوطة بالكتمان سعياً إلى مساعدة الأفراد على التأكد من صواب المسار الذي يتخذونه. كما يمكن للمؤسسات أن تسهل مناقشة أنواع المآزق المتكررة من أجل تهيئة الموظفين للاستجابة على نحو مناسب في تلك الحالات.
وهناك أدوات مهمة أخرى لتعزيز ثقافة الالتزام بالأخلاق في المؤسسة، هي اشتراط أداء القَسَم وتوفير التدريب التحريضي وإجراء مناقشات حول المآزق وتنظيم محادثات بشأن قواعد جديدة وعقد حلقات عمل داخلية بشأن السياسات وتشجيع استمرارية التعليم. وتشجع الفقرة الفرعية 1 (د) من المادة 7 من اتفاقية مكافحة الفساد، على سبيل المثال، الدول على وضع برامج تعليمية وتدريبية لتمكين الموظفين العموميين "من الوفاء بمتطلبات الأداء الصحيح والمشرف والسليم للوظائف العمومية". وبغية ترسيخ بيئة أخلاقية والحفاظ عليها، من المهم أن يتاح للموظفين فضاء آمن وإجراءات منظمة لمناقشة المسائل الأخلاقية، وأن يشجعوا على تقاسم تفسيراتهم المختلفة والاستماع لآراء الآخرين الداعية إلى الأخذ بقيم وقواعد معينة وفهم تلك الآراء، ومناقشة العواقب المحتملة للقرارات، والإحساس بالانتماء وبأنَّ أصواتهم مسموعة، واختبار كيفية نشوء توافق الآراء (أو على الأقل تفهُّم مواقف الآخرين وشواغلهم)، وأن يكون لديهم شعور بأنَّ هناك قرارات أكثر اتساماً بالمسؤولية سوف تنشأ في نهاية العملية. وما قد يبدو إشكاليًّا في هذا الشأن هو تحديد السلطة التي تتولى تنفيذ برامج التدريب وتنظيم المناقشات المتعلقة بالمآزق وإجراء المحادثات. ويمكن أن تكون برامج التدريب من مسؤولية الهياكل الداخلية للمؤسسة العمومية، أو قد يكون هناك كيان خارجي منفصل يتولى مسؤولية تدريب جميع الموظفين العموميين. ففي ليتوانيا، على سبيل المثال، لدى معظم الوزارات الحكومية (Chlivickas, 2010, p. 4) مراكز تدريب خاصة بها، ومن ثم يمكن للموظفين العموميين أن يزيدوا من معارفهم باستمرار وأن يُذكَّروا بالقيم الأساسية للخدمة العمومية. وفي المقابل، ثمة دول أخرى، مثل الدانمرك (المعهد الدانمركي للإدارة العمومية) وتشيكيا (معهد الإدارة الحكومية) وفرنسا (معهد الإدارة العمومية والاقتصاد التنموي ومركز الدراسات الأوروبية في ستراسبورغ) وألمانيا (الأكاديمية الاتحادية للإدارة العمومية) وأيرلندا (معهد الإدارة العمومية) وإيطاليا (المعهد العالي للإدارة العمومية)، لديها مؤسسات عمومية منفصلة تتولى مسؤولية توفير التدريب للموظفين العموميين. وبصرف النظر عن ذلك، فإنَّ النقطة المهمة هنا هي أنه، من خلال التدريبات المستمرة، يمكن للموظفين العموميين ألاَّ يعمِّقوا معارفهم فحسب بل وأن يناقشوا التحديات والعوائق اليومية التي تفضي أيضاً إلى سلوك منحرف وغير أخلاقي.
المراجع
- Chlivickas, Eugenijus (2010). Civil Service Training System: Human Resource Development Strategy .
- de Graaf, Gjalt, Leo Huberts and Remco Smulders (2014). Coping with public value conflicts. Administration and Society, vol. 48, No. 9 (April).
- Eagleman, David (2016). The Brain: The Story of You. Edinburgh: Canongate Books.
- Huberts, Leo and Alain Hoekstra, eds. (2016). Integrity Management in the Public Sector: The Dutch Approach. The Hague: The Dutch National Integrity Office.
- Huberts, Leo (2014) . The Integrity of Governance. What It Is, What We Know, What Is Done, and Where to Go. Baskingstoke: Plagrave Macmillan.
- Jørgensen, Torben Beck and Ditte-Lene Sørensen (2013). Codes of good governance: national or global public values? Public Integrity, vol. 15, No. 1 (Winter), pp. 71-95.
- Lewis, Carol W. and Stuart C. Gilman (2012). The Ethics Challenge in Public Service: A Problem-Solving Guide. San Francisco: Jossey-Bass.
- OECD (1996). Ethics in Public Service: Current Issues and Practices .
- OECD (2005) . Performance Related Pay for Government Employees.
- OECD (2017). OECD Recommendation on Public Integrity .
- Sampford, Charles, Rodnes Smith and A.J. Brown (2005). From Greek temple to bird's nest: towards a theory of coherence and mutual accountability for national integrity systems. Australian Journal of Public Administration, vol. 64, No. 2 (June), pp.96-108.
- Sandel, Michael, J. (2009). Justice: What's the Right Thing to Do? New York: Farrar, Straus and Giroux.
التالي
الرجوع إلى البداية